على هامش القمة الأفريقية السادسة والعشرين التي عُقدت في إثيوبيا نهاية يناير2016، أعلن سفير مصر لدى إثيوبيا عن تولي بلاده قيادة ملف تشكيل "قوة عسكرية" في شمال أفريقيا، حيث تأتي هذه القيادة في إطار الجهود الرامية لإنشاء قوة عسكرية أفريقية مشتركة للحفاظ على السلم والأمن في القارة، ومواجهة الصراعات الداخلية، والتصدي لمخاطر الإرهاب الذي يشكل تهديداً حقيقياً للدول الأفريقية.
وقد سبق ذلك جدل متزايد عن ضرورة اعتماد الأفارقة على الذات، وتنفيذ عمليات التدخل من خلال قوة أفريقية جاهزة للانتشار السريع، خاصةً بعد تواتر عمليات التدخل العسكري الأجنبي في القارة الأفريقية، ومنها عملية "فجر الأوديسا" التي قام بها حلف الناتو في ليبيا عام 2011، وعمليتا "سيرفال" و"سنجريس" اللتان نفذتهما فرنسا في مالي وأفريقيا الوسطى على الترتيب، فضلاً عن تدخلات أخرى، سواء لدعم قوات أفريقية ما (التدخل ضد بوكو حرام)، أو لتوجيه ضربات جوية مركزة إلى عناصر مستهدفة (تصفية قيادات الشباب المجاهدين في الصومال).
فكرة إنشاء قوة أفريقية للانتشار السريع
تعود بداية التفكير في إنشاء قوة أفريقية للانتشار السريع إلى المبادرة التي طرحها وزير الخارجية الأمريكي الأسبق "وارين كريستوفر" عام 1996، وأيدتها حينها بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وغيرها من دول الاتحاد الأوروبي، حيث طُرحت هذه الفكرة في سياق التيار العام الذي ساد العقل الغربي، والذي يرى ضرورة اضطلاع الأفارقة أنفسهم بمواجهة تحدياتهم الأمنية من خلال قوة أفريقية، تكتفي الدول الغربية بدعمها مالياً ولوجستياً. لكن الفكرة لقيت اعتراضات قوية من بعض الدول الأفريقية، خشيةً أن يكون ذلك مُقدمة للتدخل في شؤونها الداخلية.
وعادت الفكرة إلى سطح الأحداث مرة أخرى في مطلع الألفية الحالية، ففي خلال القمة العادية الأولى للاتحاد الأفريقي بجنوب أفريقيا في يوليو عام 2002 اعتمد الاتحاد منظومته الأمنية، والتي تقوم على إنشاء "مجلس السلم والأمن الأفريقي"، ليكون بمثابة الذراع الأمنية الأساسية، أو المظلة التي تضم معها آليات أخرى هي: مجلس الحكماء، وآلية الإنذار المبكر، وصندوق دعم السلم، والقوة الأفريقية الجاهزة للانتشار السريع.
وعلى الرغم من دخول البروتوكول المُنشئ للمجلس حيز النفاذ في يناير 2005، فإن مسألة تكوين قوة أفريقية جاهزة للانتشار السريع ظلت محلاً للجدل، وربما الخلاف، بين أعضاء الاتحاد الأفريقي، على الرغم من أهميتها في إيجاد منظومة أمنية متحررة نسبياً من قيود التدخلات الأجنبية التي ارتبطت بسلبيات جسيمة في أغلب الحالات، مثلما حدث في الصومال ورواندا وليبيا ومالي وأفريقيا الوسطى.
وقد استمر مجلس السلم والأمن الأفريقي في أداء دوره في إقرار السلم والأمن في القارة، بالاعتماد على الآليات المتاحة، وذلك بالتوازي مع تطوير الإطار القانوني والبنية اللوجستية اللازمة لإنشاء القوة العسكرية المقترحة.
تقييم مساعي تكوين القوة الأفريقية ومهامها
نص البروتوكول المُنشئ لمجلس السلم والأمن الأفريقي على أن تتكون القوة المقترحة من خمسة ألوية عسكرية، بالإضافة إلى عناصر أخرى مدنية، تنتشر في شمال وجنوب وشرق ووسط وغرب القارة، بهدف التصدي للصراعات والحروب الأهلية، والأزمات الأمنية، والمنازعات الحدودية في القارة.
وتتبع القوة المقترحة مجلس السلم والأمن الأفريقي، وذلك بقوام مبدئي يضم خمسة عشر ألف جندي. وتديرها فنياً بشكل مباشر لجنة أركان حرب، يرأسها وزراء دفاع الدول الأعضاء. ويعد مجلس السلم والأمن الأفريقي وحده هو الجهة المنوط بها التفويض بنشر القوة أو إنهاء عملها.
ولا يوجد حتى الآن تقييم شامل لما تم إنجازه على صعيد إنشاء القوة المقترحة، على مستوى الألوية الخمسة المزمع تكوينها، حيث يسير تنفيذ خريطة الطريق ببطء شديد. لذا تأجل إنشاء القوة ذاتها ككيان عسكري وأمني عن الموعد المقرر عام 2010، وذلك لأكثر من مرة، كان آخرها في ديسمبر 2015. وربما يستغرق الأمر عدة سنوات أخرى حتى يتم تأسيس هذه القوة فعلياً.
وبالتالي، لم تنجز الدول الأفريقية المرحلة الأولى من القوة المقترحة، والتي تركز على تكوين قدرات إدارية إقليمية على المستوى الاستراتيجي. فبالنسبة لقدرة الشمال الأفريقي على سبيل المثال، توجد الكثير من الصعوبات التي تواجهها، حيث يقع مقر القيادة التنفيذية للقدرة في ليبيا، التي تعاني حالياً صراعاً داخلياً شديد التعقيد، فيما تنهمك مصر (التي تولت القيادة الدورية للقدرة في نوفمبر 2015) في شؤونها الداخلية، خاصةً مكافحة الإرهاب ومسألة سد النهضة، وهو ما قد يطغى على جهود إنشاء لواء الشمال الأفريقي في إطار القوة الأفريقية الجاهزة.
وهنا تجدر الإشارة إلى التكاليف الباهظة للفرصة الضائعة التي كان بالإمكان توفيرها فيما لو أُنشئ لواء الشمال الأفريقي، حيث كان بوسع هذا اللواء، على سبيل المثال، التدخل العسكري في ليبيا بقوات أفريقية خالصة، حيث تقع الحالة الليبية ضمن دائرة اختصاص القوة الأفريقية الجاهزة.
وأدى الخلاف بشأن الطريقة الأنسب لمواجهة الصراع الليبي إلى استدعاء حلف الناتو للتدخل فيه، وتمدد تنظيم "داعش" في ليبيا، في ظل غياب القوة الأفريقية الجاهزة، وجمود اتفاقية الدفاع المشترك في إطار الجامعة العربية.
وإلى الآن مازالت الحالة الليبية محلاً للجدل، حتى على النطاق الأضيق، وهو دول جوار ليبيا الست، إذ تطالب مصر برفع حظر السلاح عن الجيش الليبي، وضرورة التدخل العسكري الإقليمي، سواء من خلال قوات عربية أو أفريقية على غرار التحالف الإقليمي ضد "الحوثيين" في اليمن، بينما تتحفظ تونس والجزائر على هذا الطرح، وتطالب النيجر بالتدخل الدولي عن طريق الأمم المتحدة، فيما تنغمس تشاد في المواجهة ضد بوكو حرام، وترى السودان ضرورة إفساح المجال أمام التسوية السلمية وتشكيل حكومة وحدة وطنية في إطار عملية الصخيرات.
التحديات التي تواجه إنشاء القوة الأفريقية الجاهزة
ثمة الكثير من التحديات التي تحول دون القدرة على تأسيس القوة الأفريقية الجاهزة للانتشار السريع، ولعل أهمها ما يلي:
1- ضعف القدرات العسكرية:
تتسم القدرات العسكرية للدول الأفريقية بوجه عام بضعفها النسبي، حيث يقل حجم الجيش في بعض دول القارة عن خمسين ألف جندي. كما أن ثمة دولاً لا تملك جيوشاً منظمة أساساً (حالة الصومال)، أو أن جيوشها منهمكة في صراعات داخلية (جنوب السودان وبوروندي). كذلك تفتقر غالبية الجيوش إلى التدريب الجيد والمهارات اللازمة للقيام بعمليات حفظ السلم الإقليمي، وهي مهارات يصعب اكتسابها في فترة وجيزة، وتتطلب الكثير من المال والخبرات. وتفتقر معظم الجيوش القدرات اللوجستية اللازمة للقيام بعمليات حفظ السلم.
2- تواضع الإمكانيات الاقتصادية:
فالميزانية السنوية للاتحاد الأفريقي شديدة التواضع بشكل يجعله غير قادر على الوفاء بمتطلبات تشكيل ونشر القوة الأفريقية المقترحة. لذلك مازال الاتحاد يعتمد على التمويل الخارجي القادم من الدول الغربية المانحة، والمؤسسات المالية الدولية التي تهمين عليها الدول الغربية أيضاً، وهو ما يجعل فاعلية القوة المقترحة رهناً لإرادة دوائر المصالح الغربية، مثلما حدث من قبل مع قوة الاتحاد الأفريقي في دارفور، التي تحولت إلى بعثة مشتركة بين الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي باسم "يوناميد".
يُضاف إلى ذلك، عدم التزام الدول الأعضاء بسداد المساهمات المالية المقررة لصالح الاتحاد الأفريقي على الرغم من محدوديتها، وتفاوت الإمكانيات الاقتصادية بين الدول الأعضاء، ما يمنح الهيمنة لبعض الدول على القوة الأفريقية في حال تكوينها، مثلما حدث من قبل بالنسبة لنيجيريا في إطار (إيكواس)، وجنوب أفريقيا في إطار (سادك).
3- المشكلات والاعتبارات السياسية:
تمثل الخلافات والصراعات بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأفريقي عائقاً أمام تشكيل القوة الأفريقية الجاهزة. فعلى سبيل المثال، لا يمكن تصور قيام تعاون أمني بين إثيوبيا وإريتريا. وقد لا يكون بوسع بعض الدول المساهمة في تكوين هذه القوة، نظراً لظروف الصراعات، والانشغال بترتيب الأوضاع السياسية الداخلية في الوقت الراهن، كما هي الحال بالنسبة لجنوب السودان وليبيا ومالي وأفريقيا الوسطى والصومال.
سُبل تفعيل التدخل في إطار القوة الأفريقية الجاهزة
ثمة الكثير من المخاطر التي تترتب على عدم تفعيل القوة الأفريقية الجاهزة، أهمها انتشار الصراعات، وتفاقم مخاطر الإرهاب، وتهديد بنية الدولة الأفريقية، واستمرار الاعتماد على التدخل الأجنبي. وبالطبع فإن الطرف المتدخل يحرص على فرض أجندته الخاصة على أطراف الصراع، وهي أجندة تصب في جانب تحقيق مصالحه الوطنية، وهو ما قد يعرقل إمكانات تسوية الصراعات ويطيل من أمدها. (الحالة الليبية حالياً مثال واضح).
لذا فإن نجاح القوة الأفريقية الجاهزة في تحقيق مهامها التدخلية يستلزم الوفاء بعدد من المتطلبات التي تضمن زيادة كفاءة عملية التدخل، وبالتالي تعظيم فرص نجاحها في تحقيق أهدافها المرجوة، وتقليل آثارها السلبية. ومن أهم هذه المتطلبات ما يلي:
1- وضع نظرية عامة ومقبولة للتدخل العسكري، تتضمن القواعد التي تحدد الإطار القيمي والمرجعي لعملية التدخل، من حيث تحديد الحالات الواجب التدخل فيها، وأسلوب صنع القرارات المتعلقة بالتدخل، وكيفية تنفيذه، وآليات التنفيذ. ولعل ذلك يتطلب مراجعة الفصل الثامن من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بتنظيم العلاقة بين الأمم المتحدة والتنظيمات الإقليمية.
2- ضرورة الحصول على موافقة الأطراف الرئيسية في الصراع على هذا العمل التدخلي، وذلك لضمان تعاونها مع القوة الأفريقية الجاهزة. لكن هذه الموافقة لا يجب أن تكون حائلاً دون القيام بالتدخل إذا كان من غير الممكن الحصول عليها بالنسبة للصراعات التي تقترن بانهيار الدولة ومؤسساتها.
3- تنفيذ عمليات التدخل باسم الجماعة الأفريقية ككل وتحت رايتها، سواء أكان القائم بها هو الاتحاد الأفريقي، أو إحدى المنظمات الإقليمية الفرعية في القارة، وذلك في ضوء مبادئ الأمم المتحدة وتحت إشرافها أيضاً.
4- توفير أدوات ووسائل كافية توضع تحت تصرف القوة المقترحة حتى يمكنها القيام بدورها على النحو المطلوب.
5- ضرورة تحلي القوة المتدخلة بالمصداقية وحسن النوايا، وذلك للدرجة التي تجعل الآخرين ينظرون إليها على أنها كذلك، وذلك منذ بداية انتشارها في منطقة الصراع. ففي حالات التدخل الإنساني، على سبيل المثال، لا ينبغي أن تكون الدوافع الإنسانية ستاراً لتحقيق أهداف أخرى، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو غيرها.
6- ضرورة إجراء تقييم لتدخل القوة الأفريقية أثناء عملية التدخل ذاتها وبعد نهايتها أيضاً، فالتقييم أثناء التدخل يفيد في تحديد مدى النجاح أو الفشل في تحقيق الأهداف المطلوبة وفق الجدول الزمني المحدد سلفاً. أما التقييم اللاحق، فترجع أهميته إلى أنه يحدث بعد اتضاح الصورة بشكل كامل حول عملية التدخل. وبالتالي فهو يفيد في تدعيم الإيجابيات وتجنب السلبيات خلال عمليات التدخل اللاحقة.